وقفات مع العام الماضي

 

تقاطرت الأيام* وأصبحنا في آخر محطات العام محطة ديسمبر التي ينقص فيها عمري عاما ويكبر جسدي عاما، بينما أنصت لعدة أسطوانات أدون هذه الكلمات بشيء من العجل خشية أن يتأرجح بندول الزمن وينقل ذاكرتي من ضفة ذاكرة الفيل إلى ضفة ذاكرة السمكة وأنسى أهم معالم العام.

حديث الكتب

“حين يمر يوم ولم أقرأ وأكتب ولو قليلا أشعر بالذنب، هل أستحق أن أوجد؟ لا، وتستمر الحياة”

-سلافوي جيجك

لعل أبرز معالم هذا العام أني صرت أشاطر الفيلسوف المذكور شعوره، صرت أشعر بالذنب حين يمر يوم دون أن أقرأ وأكتب وكأنهما الماء والهواء لروحي ووجداني.

 هذه الأيام أقرأ ما وراء الخير والشر لنيتشه وأفهم فقرة ويتعسر فهم فقرات كثر، لغموض أسلوب نيتشه وصعوبته وقربه لطبيعة الشعر ورمزيته، ولا جدوى من الحديث عن فائدة القراءة لأن هذا الموضوع قتل بحثا حتى في عالم الموتى، ولكن ماذا عن القراءة في ما لا تفهم وجدواها؟

أقول قراءة أمور يصعب عليك فهمها يجبرك على البحث، ويحثك على الصبر وتكرار القراءة وإعادة النظر والبحث عن شروح لما قرأت، وهو تحدي قد يحرقك ولكن حين ستفهم النص ستكون كطائر الفينيق الذي يحترق ويولد من رماده من جديد، حينها يرتفع مستواك المعرفي ضرورة، ستكون لحظة في غاية اللذة والمسألة أشبه بتلك العبارة الدارجة:“ما لا يقتلك يقويك” التي قالها نيتشه ذات مرة، وهذا كله يصب فيما قاله أحدهم “أقرأ فيمت يؤرقك” لأنه سيرفعك.

من الكتب التي أحسبها رفعتني وانتفعت بها، وكنت أسبح فيه 41 يوما كتاب براهين وجود الله للدكتور سامي عامري، الذي كنت أتابعه من فترة طويلة واستمتع بأحاديثه الطويلة الماتعة على اليوتيوب عن الفلسفة والإلحاد والنصرانية والإيمان، أما موضوع الكتاب فواضح من عنوانه ورغم طوله -750 ص- وكثرة مواضيعه ومصادره إلا أن السباحة فيه كانت من أفود وأحلى أوقات هذا العام، كبحر كلما غصت فيه وجدت اللؤلؤ والمرجان.

أول أبواب الكتاب مقدمة أولية للجدل بين الإيمان والإلحاد ويعطي خلفية أساسية كبرى عن الأمور العامة، منها المواقف العقدية في مسألة وجود الله من المذهب الألوهي والربوبي والإلحاد وغيرهم، ويحدثنا عن البرهان المقنع وحقيقته، والمعرفة بين العقل والحس، ثم بعد هذا الباب التأسيسي تأتي أبواب براهين الإيمان ويقدم عليها الأدلة ثم يرد على انتقادات كبار الملاحدة لهذه البراهين.

لعل أحب الفصول إليّ الفصل الثاني البرهان الأخلاقي من باب برهان النفس، وفيه حديث عن الأخلاق الموضوعية:

ص223

القيم الأخلاقية الموضوعية موجودة مضطردة، فحين يسرق/يكذب/يقتل أحدهم يلام على هذا ويعاقب وينظر لفعله أنه فعل قبيح، بينما حين يصدق/يُكرم/ينقذ أحدهم شخص ما، ينظر أن فعله فعل حسن جميل ويمدح لهذا، وإجماع البشرية على هذه القيم  لابد له من مقنن وضع في نفوسنا المعيار الأخلاقي هذا، لذا لابد من وجود الإله لتفسير هذه الظاهرة. وهذه خلاصة الفصل لكن المؤلف لا يتوقف هنا.

بطبيعة الحال لابد أن يعطينا المؤلف أجوبة أسئلة مثل: ما معنى موضوعية الأخلاق؟ وهل هي فعلا موضوعية؟ وهل يلزم من موضوعية الأخلاق وجود الله؟ لأنها لب هذا البحث، لكنه يزيد على هذا ويحدثنا عن ملاحدة ينتصرون لهذا البرهان، ويسرد لنا محاورة ظريفة بهذا الموضوع تختصر الكثير وتدل على الكثير، وهناك ردود رائعة على انتقادات الملاحدة، وبصراحة بعض الاعتراضات/الانتقادات قد تخطر ببال المؤمن ولكن الردود عليها تثلج الصدر وتنير العقل، مثل الرد على مسألة أن الملحد قد يكون طيبا خلوقا فلما نحتاج لوجود الله؟ وجواب سؤال لو كانت الأخلاق موضوعية فعلا فلما نحتاج الدين؟ برأيي برهان الأخلاق أسهل الطرق لإثبات وجود الله، وأحد أصلبها وأجملها، وجودة حديث المؤلف عن بقية البراهين لا تقل عن هذا البرهان، وأخص بالذكر برهان الحدوث وبرهان الجمال، ولعل برهان الجمال أجمل البراهين ولكني إلى برهان الأخلاق أميل.

عندي مشكلة ذاتية بسيطة مع هذا الكتاب، وهي كثرة حديث المؤلف عن نظرية التطور -الدارونية الحديثة- و عن عدم دعمها للإلحاد وعدم صحت أسسها، وحديثه لا شائبة فيه، فهو حديث بمصادر علمية مفصّل مفهوم، ولكني أقول أنها مشكلة ذاتية لأني صرت أمقت هذا الموضوع ونفسي لا تطيقه، لا لعيب بما كتب المؤلف ألبتة.

يقال أن العقّاد مرة قال:”أن تقرأ كتاباً جيداً ثلاث مرات .. خير لك من أن تقرأ ثلاث كتب جديدة” وأحسب نفسي لابد أن أعيد كتاب براهين وجود الله في المستقبل لانتفع منه أكثر، وأحسب أن القراءة الثانية ستكون أحلى كما كانت إعادة كتاب حياة على عجل لسيف الرحبي.

حياة على عجل مجموعة مقالات كتبها سيف الرحبي في مختلف المواضيع ولا يجمعها جامع ولا خيط ناظم سوى أنه كاتبها، تتعدد مواضيع المقالات ما بين حديث المؤلف عن السينما والشعر وتأملاته وحياته وغيرها، والساحر في هذا الكتاب أسلوب المؤلف النثري الأقرب للشعر من النثر، فيه روح الشعر الاختزالية بجميل التراكيب والمقدرة على كتابة سطر واحد يحوي معنى عدة أسطر.

حين كنت أقرأ مقالات المؤلف تذكرت أمرين غير حلاوة أسلوبه، الأول ثقافته الواسعة والآخر أني لا أعرف إلا قليلا عن نشأته وحين وجدت هذا الملف بموقع الجزيرة وُضعت النقاط على الحروف،  عاش حياة مثيرة ولد بالخمسينات في عُمان ودرس الثانوية والجامعة في مصر والانتقال من تلك البيئة إلى تلك ومناخها الثقافي لابد أن يصنع تجربة حياتية فريدة، والشخوص الذين تعرف عليهم يقينا هم من صقلوا هذه التجربة، في مقالاته يحدثنا عن رفاقه من مثقفين وكُتّاب وشعراء ومترجمين وغيرهم، ويعطينا لمحات عن طباعهم وأعمالهم ونحو ذلك.

 أحد أحسن مقالات الكتاب مقال “مقبرة بيرلاشيز” مقبرة بباريس دفن فيها عدد عدد من الفنانين من بينهم أوسكار وايلد الأديب الشهير،  يذكر فيها زياراته لتلك المقبرة والشخوص الذين يقابلهم فيها،  يحدثنا عن صديقه عبداللطيف اللعبي الذي حَكم عليه ملك المغرب بالإعدام، ويحدثنا عن رشيد الصابغي ذو النهاية التراجيدية حين رمى نفسه تحت عجلات القطار، وكأن المقبرة ليست إلا مكانا يتذكر ويلتقي فيه برفاقه الفنانين والمثقفين ويتحدثون أنفسهم وأمورهم وعن الفن والثقافة وأهلهما.

لعل أحلى مقالات الكتاب هو “متعة القتل”، عن كيميائي روسي صنع سم وأضحى يجربه وبدأ بأهله، ويقول الكاتب فيه الكثير عن هذا الموضوع وما يدور حول فلكه في صفحتين ونصف ليس إلا.

و كذلك تجد مقالات أخرى قدم فيها قراءات نقدية أو تأملات لأعمال فنية مثل مقال “فلليني: التلفزيون” يحدثنا فيه عن فلم Ginger & Fred  وخوف المخرج من التلفزيون، وحديثه الماتع عن فيلم Amadeus بمقال:” طرق القتل والتسميم” وهناك بوتقة جميلة من المقالات عن الشعر والشعراء من بينها “ثيمة الغياب في شعر محمود درويش” و “أسطورة المتنبي”.

حياة على عجل كتاب ماتع سواء قرأته على عجل أو على مهل، تقف مرة على بعض ما كتب وتتعجل في آخر، فهي مقالات في مواضيع منوعة وتفاوت المستوى لابد منه، فتنوع مواضيع المقالات لابد أن يململ القارئ هنا ويجذبه هناك.

وما هذا إلا حديث مختصر عن أحسن كتابين قرأتهما هذا العام، أو بالأصح أكثر من أود الرجوع لهما وأفكر فيهما، أما بقية الكتب التي قرأتها فكتبت عن جلها تعليقات تجدونها هنا على موقع جودريدز، ولأن هذه الأسطوانة قد انتهت سأضع أسطوانة الخليجية.

أسطوانة الخليج

حين نتحدث عن المغنيين من القدماء والمعاصرين، يكثر استعمالنا لمصطلح جميل لوصف أصواتهم، من المعاصرين مثلا The Weeknd ومن السابقين Freddie Mercury، وعلى الصعيد العربي نجد فيروز وعبدالحليم حافظ، وقد يغفل غافل ويظن أن الصوت الجميل وحده يكفي لصنع المغني متناسيا الأسلوب والأداء، ولكن حين ننصت للأغنية الخليجية نجد أصواتا مختلفة.

محمد عبده الملقب بفنان العرب لا يملك صوت غارقا في الفرادة، ولا يملك صوت يقال عنه صوت جميل للغناء بالمعنى التقليدي، وزيادة على هذا لا يغير طبقة صوته لأخرى أفضل على غرار كثير من المغنيين، وبينما أنا أنصت لأغانيه صرت أسأل نفسي ما سر حلاوتها؟ 

وأحسب الجواب يكمن في التلحين والعزف والغناء المتزن، أنصت لأغنيته مذهلة وصدق العاطفة خاصة حين يختلف اللحن بالدقيقة 11:15 ويقول:”كي تكوني، في عيوني ومن حنيني وبس فيني ومو بدوني مذهلة*..” وانصت لجمال الألحان وسلاسة الانتقال، ومع كثرة الاستماع له صرت أميل للقول أن صوته عتيق كأنه من عبق التاريخ.

بينما نجد أبوبكر سالم يملك صوتا غليظا فريدا، ولكنه في ظني أغلظ بدرجة على الأقل تمنعه من أن يكون من أصحاب الصوت الجميل التقليدي، ورغم هذا فهو يَسكر ويُسكر الجمهور بأسلوبه الفريد، تجده يرفع الكلمة عاليا وينزلها دانيا ويهمس أحيانا متناغما متماشيا مع الكلمات، أنظر في أغنيته ما علينا يا حبيبي حين يقول:

“رسينا يا شواطي الشوق رسينا والأماني فوق” يرفعها عاليا، وينزل حين يقول:” ومن بسمة الرضى نلنا الأماني” ويهمس حين يقول “وهمسة حب تروي ما روينا “كل هذا يصب في طريقه الخاص إلى صدق العاطفة.

وعلى كل مسألة الصوت الجميل للغناء ليست المعيار الفيصل بين المغني البارع ونقيضه، ولكنها فكرة أوردتها لأوضح تميز المبدعين المذكوري سلفا ليس إلا، وفن الغناء لمن يعرفه حق المعرفة يتجاوز معنى الصوت الجميل التقليدي ويقدم لنا أصواتا خارجة تلك العباءة بحسب ما يتطلبه السياق.

 مر وحلو 

أحب الثرثرة عن الموسيقى مع الرفاق، وأحب حين يعرّفوني على موسيقيين وأغاني جديدة توسع ذائقتي الموسيقية، كانيه وست مثلا كنت أتجاهله لسبب أجهله إلى أن بدأ صديق سابق يخبرني عنه وعن ألبومه My Beautiful Dark Twisted Fantasy وعن أنه لم يضع “دسلايك” سوى على فيديو فانتانو هذا ونسخته الأحدث كذلك.

كانت تربطنا أحاديث كثيرة، بعضها عن كانيه وفانتو من بين أحاديثنا الفنية والفلسفية، وركام من التسكع وجلسات المطاعم، إحداها كانت في صباح جميل بمحل شاي بعد أن ألححت عليه أن نذهب وكان يود النوم، في ذات الفترة الزمنية شاهدت Touch of Evil

 فلم نوار بطله أورسون ولز الممثل الشهير، يمثل شخصية محقق سمين أعرج يمشي بعصا له حضور وكريزما عالية ويستعمل حدسه في أمور مختلفة، مع حركة دقائق الفلم نتعرف أكثر على شخصيته وأمور أخرى، من سخرية القدر أو طرافته، في نفس جلستنا تلك التقينا صدفةً برجل مثله في البنية الجسدية والسن ويمشي بعصا كذلك، اللهم أنه يملك كريزما نازلة وحدسه تعيس، أشار إلينا في حديثه مع رجل مصري بناء على توقع خاطئ ورمى نفسه في موقف محرج لا يحسد عليه، مع الوقت عرفنا أن كل رفاقه سبقوه إلى حفرهم وصار يفكر بالحقيقة الوحيدة التي يُجمع البشر عليها دون تشكيك، صار يفكر فيها أكثر من أي وقت مضى، أما حكاية الرجل المصري ذاك فتلك حكاية من ينام في الحديقة لأنه فقد عمله أو شيء كهذا.

قلت صديق سابق لأني أؤمن أن العلاقات الدُنيوية لها تاريخ صلاحية قد تنتهي بموت أحد الطرفين وقد تنتهي بشيء اخر، وما انتهت علاقتنا إلا لأنه كان “غوريلا” وأصبح “بشريا” فنفيناه من عشيرتنا، وأود أن أكتفي بالقول أنه أذاقني مرارة أمقتها، مرارة أن تعطيني كلمة وتكسرها عدة مرات، مرارة كوب كرك مر.

ثمان ساعات من القيادة تقريبا، كنت أظن أني سأقود لثلاث ساعات فقط لأنها سيارتي فلم أعتد على القيادة لأكثر من ساعة ونص، كان طريقا طويلا لكن ممتعا، الكثير من الأحاديث والموسيقى والضحكات، وصلنا أمد بالدقم وكان أول يوم جميلا، الخيمة التي استأجرتها أكبر من أحسن ظنونا، 

التقينا صديقينا الموسيقيين العاملين بالفعالية وأشركونا ببعض أعمالهم، واستمتعنا بالفعاليات، أخبرونا عن “صعاليك الزط” حفنة من اللصوص قامت بسرقة فلاشات السماعات، تطور الصعاليك وأصبح لهم عقول فسرقوا السماعات وأحدهم سرق سكوتر، كان رفاقنا مشغولين بالفعالية طوال الوقت لدرجة أن وقت العشاء عندهم من 12-2 ليلا، حينها إلى “وقت الشاي” نذهب، ذاك المحل الرفيع، مأوى الطعام الشهي والأحاديث الماتعة.

 حين عدنا من هناك الثالثة ليلا بعد يوم طويل كنت أقول للملّاح الذي يسّر لي ثمان ساعات الطريق الأولى:

– ألا تظننا أطلنا الطريق؟ 

-قطعا لا، الخيم أكبر من جماجمنا إلا إذا رمانا ساحر بتعويذة ودخلنا في loop علينا فك شفرته، رمبا الحل في ذلك النجم

 -بدأنا نقهقه 

فجأة نرى الجبال تخبرنا مقهقهة مصرّحة بأننا قطعا أخطأنا الطريق، نعود أدراجنا ونحن على يقين أن الأنوار مطفأة، الساعة تعددت الثانية بعد منتصف الليل، قطعا أغلقوا أنوار الشارع لسبب ما، نجد الأنوار ساطعة والخيم الضخمة واضحة، وتلك كانت أول سلسلة الأحداث المأساوية

بدأ الرفاق اليوم الثاني وذهبوا إلى السوق يبحثون عن دجاج بجلد، من محل دواجن لاخر وكلهم ترسم على وجوهم علامات التعجب، دجاج بجلد؟ما هذا؟

 لنطبخ غداءنا على الشاطئ، الشمس طالعة لكنها باردة والهواء عليل، نهاتف رفاقنا العاملين، ثالثكم نائم؟ لا بأس حين يستيقظ تعالوا إلى الشاطئ، ربما يطيل؟ عسى ألا يطيل، الغداء سيجهز بعد ساعة إلا ربع بالكثير، مجرد “عيش ودجاج” لا أكثر، نقطع البصل نغسل الأرز وبقية الأمور، أين الطباخة؟ غريب أننا نسيناها بالسيارة، يستحيل أن تكون بالخيمة أليس كذلك؟ لكنها كانت هناك، تبا لك أيها الساحر اللعين كيف يتحول موضوع من ساعة إلا ربع إلى سبع ساعات ونصف؟ ماذا فعلنا بك؟

مشاور جلب الطباخة طال أكثر من اللازم، ذهبنا لدكان لنشتري أغراض ونسيا أخرى بالخيمة، محاولات إشعال النار بائت بالفشل وحين اشتعلت رغم أنها تحرق القِدر، بدلناها بطباخة الشاي وأشعلت نار عاليا لكن اختربت، وكر وفر بين نار أكثر من اللازم وأقل من اللازم، اقترب المغرب ويبدو الطعام جاهزا لكنه لم يجهز بعد، إلى المسجد ثم السوق لنشتري الفحم ونطبخه على الشواية؟ ليكن، لكن أي مسجد هذا الذي يقع داخل مجمع سكني خاص بالعُمَّال المدخل أقصى شمال المدينة والمسجد أقصى يمينها؟ ثم وجدنا الفحم وطبخنا الغداء، بعض الشاي لن يضر.

السكر أولا وتذيبه حتى يصبح كرملا، ثم الماء ثم الشاي والحليب، يا شيف ما هذا السواد؟

– تبا لقد احترق الكراميل، لكن لا بأس لنجرب إضافة الماء ثم السكر، الغوريلا يصنع التجارب الغوريلا يفشل

– لا بل الغوريلا عسى أن ينجح! 

لكنه فشل، أنه بني، قوامه قوام الكرك لكنه مر، كرك مر قطعا هذا ما قصده عبادي حين قال:”سألتك بالذي زانك تحبي فيني حتى الظلم تحبي عيوبي وغدري تحبي المر في كاسي” في أغنيته عيونك كان يقصد كرك مرا،  ومحاولة أخرى أخرجت لنا كرك عدميا بلا طعم، ولأصارحكم لا أحب المر في كأسي، لكن أحبتت تلك الرحلة بحلوها ومرها، التسكع مع الغوريلات يرد الروح دوما.

أمور أخرى أو ماذا شاهدت/لعبت هذا العام؟

حين بدأت كتابة المقالات التي لا تتجاوز كونها شخبطة بالكلمات، كان الهدف الحديث عن الأنمي ثم توسع ليشمل الألعاب، والآن بينما أنظر لقائمة الأعمال التي تعاطيتها هذا العام يبرز عدة أعمال فنية، ولنقل عدة كنوز أولها جزيرة الكنز.

جزيرة الكنز 

مغامرة طولها 26 حلقة تجسد معنى المغامرة وتشعر أنها بطول 52 بشكل إيجابي، تبدأ الحلقات الأولى مع بيلي جونز والتمهيد لظهور الرجل ذي الساق الخشبية ثم بداية الرحلة وظهور سلفر بعد ست حلقات من البناء، الطريق إلى الجزيرة وأخيرا الوصول لها والبحث عن الكنز، وانقلاب سلفر من دور البطل إلى الشرير، كل مرحلة مشوقة وتنبض بالحياة.

القلب النابض بالأنمي الكلاسيكي هذا كل ما يتعلق بجيم وسلفر، جون سلفر شخصية ساحرة تملك كمية كاريزما هائلة  فمثلا بمشهد معين استطاع بالحديث فقط منع جيم من أن يطلق النار عليه، وزيادة على هذا أنسى كثير أنه ذو ساق خشبية من شدة قوته، وشخصية جيم لا تقل عن سلفر فشجاعته وعلاقته مع سلفر وتقلباتها خاصة حين تحولت لعداوة مثيرة.

Gurren Lagann

بعض ما قلته عن جزيرة الكنز يصدق على جورن لاجن، كلهما 26 حلقة وشعرت أنهم 52 ولكن الفرق أن جزيرة الكنز مغامرة بمعنى الكلمة، وجورن لاجن أكشن بمعنى الكلمة.

الأنمي يملك عناصر عديدة لذيذة منها  الأنميشن المجنون والشخصيات المسلية، نشاهدهم بمزاد غباء بالحلقة الرابعة كل شخصية تزايد على الأخرى بالغباء وعنصر آخر متميز تصاعد الأكشن البديع، نشاهد سوبر روبوت في قتالات تعطي شعور الأوزان بشكل ثقيل، والموضوع يكبر تدريجيا ويتصاعد الأكشن بشكل جنوني وتتحرك الأحداث إلى الحلقة السابعة فيها حدث معين جعلني أتساءل كيف ستكمل القصة؟ وتكمل بشكل جيد ويستمر تصاعد الأكشن إلى نصف الأنمي ويصل لنقطة أنميات أخرى تحلم أن يكون هذا تصاعد ذروة قصتها، لحظتها أُصدم وأسأل كيف تستمر القصة بعد هذا؟ هذه ذروة القصة! وتستمر بشكل منطقي ومشوق والحلقة الأخيرة يتصاعد الأكشن ويتعدى ما حدث بالنصف بسنين ضوئية.

مع هذا ضخ الأدرينالين ليس القلب النابض بهذا الأنمي وإنما علاقة كامينا وسيمون، سيمون متردد وخجول وطيب، نقيض كامينا رائع وقيادي ومتهور، كامينا من بوتقة تلك لشخصيات الخفيفة على القلب خاصة  مع فلسفته الغبية:” لا تؤمن بنفسك، آمن بي وأنا أؤمن بك آمن بمن يؤمن بك” عبارة حمقاء يقولها بطريقة عجيبة وثقة عالية، وعجيب أثره على كل الأنمي وعلى سيمون خصوصا وكيف ينظر له باعتباره قدوة ويكبر ويتطور مع الوقت.

The Witcher 3: Wild Hunt

هناك ركام هائل في مديح ويتشر 3 منثور بالانترنت، وتكرار مدح عالم اللعبة يساوي تكرار مدح اللعبة ذاتها، وأحسب صدق المدح تجلى في مدينة نوفجراد، مدينة تجارية ذات طبقات اجتماعية ثلاثة، الفقيرة والمتوسطة والغنية نلعب مهام تعكس الفروقات بين الطبقات، نجد في المدينة صيادي السحرة العنصريين الحمقى، يعطون للمدينة مسحة تاريخية وواقعية فحتى السحرة بهذا العالم من الممكن أن تغلبهم الجماعة، ونجد العنصرية ضد غير البشر، ولعل أحلى تفصيلة بالمدينة العالم السفلي وتحكم أربع شخصيات به كل واحد منهم له مجاله وأحدهم ملك المتسولين، أبرزهم ديكسترا من أحسن شخصيات اللعبة، جاسوس سابق له ماضي مع بطلنا جيرلت، كل الطرفين يمقت الآخر ويحترمه بطريقة ملتوية، ويعمل مع الاخر باحترافية.

Lisa: The Painful

أصاب العالم حدث يدعى  the flash جعله رمادا، ماتت النساء أو هذا ما يفترض لأن بطلنا براد يجد طفلة ويقرر تربيتها، مرت السنون وبدون سابق انذار تخطف الفتاة ويذهب في رحلة لإنقاذها، الفكرة الأولية هذه تجلعني أتصور قصة ذات نفس سوداوي، ولكن لعبتنا تحوي لحظات سوداوية ولحظات مضحكة ولحظات غريبة بشكل متوازن.

دعني أسرد لك أمور عشوائية ممكن تلقاها بهذا العالم: مدينة أسماك برمائية، باور رنجرس، عمال يشتغلون، مختبر فيه تجارب بشرية، دوجو المدرب ماله ضعيف وتافه ويخاف من النمر المقنع القادم لقتله، إتحاد مصارعة، وأهم شيء صالة رياضية عشان نعرف جواب أهم سؤال: من الوحش مال الصالة؟

عالم اللعبة غريب ومثير في آن، يعرف متى يكون يضحك ويعرف متى يكون ملعون مثل هذا:


 أحد مدمني مخدرات أفرطوا في استعمالها حتى أضحوا بهذا المظهر.

بُنية اللعبة مكونة من ثلاث عناصر القتال/الاستكشاف/القصة أو الكتابة أو أي كان المصطلح الذي تهواه، القتال ترن بيسد فيه كل الخيارات المعتادة، صد هجوم items ، شخصيات تعتبر مقابل كلاس السحرة أخرى tank هلم جرا. أعجبني شح الموارد باللعبة لأنه يحثني على استعملها بحذر شديد، وأعجبني أن اللعبة تجمع بين الكم والكيف في جودة الشخصيات، بعض الشخصيات support وأخرى تعتمد على الكومبوز، بعضها تستعمل lp بدل sp هنا عليك زيادة الlp أثناء القتال لتستعمل ال special moves،  وكثيرة هي طرق إضافة البارتي ممبر، قد تكون مسألة بسيطة مثل محض محاورته أو تكون مهمة جانبية كاملة.

 من أحلى نكات اللعبة بالنسبة لي نكتة party member معين، تكلمه ويخبرك قصة طويلة جدا عن علاقته مع زوجته والعالم وغيرته من جاره وزوجة جاره واخيرا ينضم لك بعد جدران وجدران من الحوار، أحدهم يحتاج تدفع لينضم لك، وآخر يحتاج أنك تنهي مهمة الروليت الروسية طبيعي شخصياتك تموت، أنسيت أن لعبتنا بعالم مدمر؟

حتى أماكن النوم التي تزيد الhp استعمالها مقامرة، مرة نمت بمكان وكل شخصياتي تسموا لأن حشرة لدغتهم، وعادي عصابة تخطف أحدهم وتطالب بفدية. واللعبة تغرق بالخيارات قاسية وهي مسألة منطقية قصصيا ولعبيا، ببداية اللعبة يصير حدث ويعطوك خيارين تقتل رفيقك أو تسلم كل أغراضك العجيب بعد مسافة بسيطة لقيت مكان ارتاح فيه وشخصية عندها حساء، لكن احتاج قاروة عشان أشربه ولأني اخترت أعطيهم أغراضي ما قدرت اشربه.

ورغم أني باللعبة هائم إلا أن قرار ترشيحها لأي أحد عسيرة كعسرة قرارات اللعبة، لما تحوي من مشاهد ثقيلة على النفوس.

أثناء رحلة البحث ستجد شخصيات تخبرك أن الفتاة عند جماعة أخرى، ولكن عدة شخصيات تصفها بالقبح، تصل لرأسهم وهم ثلاث رجال عندهم شعر مندمج ويضحكون عليك لأنك أصلع، بعد هزيمتهم تجد رجل سمين يبكي:”أنا رجل لا فتاة”.يساعدك لتكمل رحلتك، ويصبح بأحد شخصياتك لكن يعاني من الاكتئاب طول الوقت، وأنت تعرف السبب بدون تصريح من اللعبة.

ربما يكون هذا مثال قاس بعض الشيء، لكنه يعبر عن اللعبة وما تنطوي عليه من سواد.

Planescape: Torment

قد تكون بلينسكيب تورمنت أكثر لعبة خطرت على بالي العام الماضي، ويخطر على بالي سؤال ماذا يمكن أن يغير الإنسان؟ السؤال الذي تطرحه اللعبة على آخرها ولا يؤثر جوابك على القصة، تطرحه لأن السؤال يستحق أن يطرح وتقدم لك خيارات عديدة من بينها: الحب، الخيانة، العمر، المعاناة، الجشع وغيرها والسؤال هذا أحب طرحه على الناس وجوابهم يعبر عنهم، فكر بالسؤال وتفكر بجوابك التلقائي عنه، وعن ما يقوله عنك.

طبعا اللعبة أكثر من هذا السؤال ولكنه يقينا أفضل لحظاتها، لعبة فانتزايا غريبة ومبنية على الحوارات، اللعبة بالمحادثات الاعتيادية تقدم لك من أربع لست خيارات وخياراتك تؤثر، ممكن تكلم أحد الشخصيات ولا يعجبه كلامك ويوقف يكلمك، أحد المواقف الطريفة إني كنت أكلم إحدى شخصياتي وعلاقتنا واضح متوترة وغضب وبدأ يهاجمني وانتقل من حليف لعدو بمحض الحوار، وكذلك بمحض الحوار تقدر تقنع شخصية معينة تنتحر.

يمكن يكفي لتعرف غرابة اللعبة أن تعرف بدايتها، يستيقظ البطل في مكان غريب ويجد جمجمة طائرة تحدثه، يعرف من خلالها أن هناك وشوم على ظهره تقول شيء ما، وبطلنا فاقد الذاكرة تكمل استكشاف المكان وتكتشف أن هذا المكان Dustmen ويجمعوا زومبيز وجثث ويعبدوا الموت الحقيقي -=العدم-، تكمل الطريق وتجد شبح حبيبة البطل، يكتشف من خلالها أنه مات عدة مرات والموت لعنه وهناك عدة نسخ منها، أحدها شريرة أخرى طيبة وأخيرة محايدة، ولقائهم ومعرفة أعمالهم لم يكن بالشيء الهين.

ولو عدنا لسؤال اللعبة الأهم فجوابي كان العمر، ذات مرة تناقشنا أنا وأصدقائي عن الموضوع واحترنا أي الأجوبة أحكم، وذلك الصديق السابق رجّح العمر لأنه يحمل عدة أمور، العمر سيأتي مع الجشع والخيانة والحب، قد يأتي مع أشياء أخرى لكنه يقينا سيحمل جوابين أثنين على الأقل، والآن أتساءل ماذا تخفي سيخفي لي هذا العام؟ وهل سأتغير من بعده؟

هوامش:

*تقاطرت الأيام عبارة أحسبها لسيف الرحبي.

*”قتل بحثا حتى في عالم الموتى” استعارة لهذه العبارة.

*مسألة أن اللعبة تسأل السؤال لأن السؤال مهم أظنها ذكرت بهذا الفيديو.

نُشر بواسطة بوسيف

مجرد رجل يحب الشخبطة بالكلمات

أضف تعليق

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ